كتب : نبيلً نور
خبير العظام الدكتور محمد عطية مرتضى استاذ العظام والروماتيزم بكلية الطب جامعة الزقازيق يسرد وقائع شيقة وغريبة عن النقرس وهو مايعرف بداء الملوك والاباطرة
واشار الى انه في إحدى الليالي الباردة في قصر الخليفة العباسي، جلس هارون الرشيد يتألم من ألم شديد في قدمه، غير قادر على الحركة. كان الأطباء يتهامسون حوله، يعرفون أن هذا المرض ليس بغريب على أصحاب السلطة والنفوذ. إنه النقرس، المرض الذي أصاب ملوك الفراعنة وأباطرة روما وخلفاء المسلمين، وأصبح رمزًا للثراء والقوة… والمعاناة.

وقبل آلاف السنين، في زمن الفراعنة، كانت مائدة الملك مليئة بأشهى الأطعمة: اللحوم المشوية، الطيور النادرة، وكميات هائلة من النبيذ والعسل. لم يكن عامة الشعب يحلمون بتذوق مثل هذه الأطعمة، فقد كانت حكرًا على الملوك والكهنة والنبلاء.
اكتشف العلماء من خلال فحص المومياوات المصرية علامات على التهابات المفاصل المرتبطة بالنقرس، مما يشير إلى أن الفراعنة، وخاصة الطبقات الحاكمة، عانوا من هذا المرض نتيجة أنظمتهم الغذائية الغنية بالبروتينات والدهون. لم يدرك الأطباء المصريون القدماء السبب الحقيقي وراء هذا المرض، لكنه كان يُعتبر لعنة تصيب الأثرياء.
وعندما انتقلت الحضارات، وصف الطبيب الإغريقي هيبوقراط النقرس لأول مرة، ولاحظ أنه نادر بين الفقراء. أما الرومان، فقد اعتبروه علامة على العظمة، حتى أن يوليوس قيصر والإمبراطور نيرون يُقال إنهما عانيا من النقرس، وهو ما جعل هذا المرض أحد “امتيازات النبلاء”.
الطبيب الروماني غالينوس كان من أوائل من حاولوا علاج النقرس عن طريق الحمية الغذائية وتجنب الإفراط في الطعام والشراب، وهي نصيحة ما زالت تُقدَّم حتى يومنا هذا.
مع انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوجها، ورث الخلفاء والوزراء أسلوب الحياة الفاخر الذي كان سمة الملوك السابقين. من بين أشهر الشخصيات التي يُقال إنها عانت من النقرس، الخليفة العباسي هارون الرشيد.
كان أطباء العصر الإسلامي، مثل الرازي وابن سينا، يدركون ارتباط هذا المرض بالغذاء، وأوصوا بالعلاج عن طريق تقليل تناول اللحوم وكثرة شرب الماء. كما استخدموا الأعشاب مثل الكركم والكرفس للتخفيف من أعراضه، وهي ممارسات تأكدت فائدتها علميًا بعد قرون.
تنازل النقرس عن عرشه: من مرض الأغنياء إلى داء الطبقات المتوسطة والفقيرة واكد مرتضى انه لم يعد النقرس في عصرنا الحديث مرضًا حصريًا على الملوك والأثرياء كما كان في العصور القديمة. ففي الماضي، كان الأغنياء فقط هم القادرين على تناول اللحوم الحمراء والولائم الفاخرة التي تؤدي إلى ارتفاع مستويات حمض اليوريك في الدم، بينما كان الفقراء يعيشون على الحبوب والخضروات، مما جعلهم أقل عرضة للإصابة.
أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة تمامًا. مع انتشار الوجبات السريعة، والمأكولات المصنّعة، والمشروبات الغازية المحلاة، أصبح النقرس أكثر شيوعًا بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة، الذين يعتمدون على الأطعمة الرخيصة الغنية بالدهون والسكريات. على النقيض، فإن الأغنياء الذين يتبعون أنظمة غذائية صحية ومتوازنة أصبحوا أقل عرضة للإصابة بالمرض.
تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن معدلات النقرس ارتفعت بشكل ملحوظ في الدول التي تعاني من السمنة وانتشار العادات الغذائية غير الصحية، حيث لم يعد المرض مقتصرًا على كبار السن، بل بدأ يصيب الشباب بسبب أنماط الحياة غير المتوازنة. كما أن قلة الحركة وزيادة الوزن من العوامل التي تفاقم من خطر الإصابة.
وبذلك، يمكن القول إن النقرس قد تنازل عن عرشه كـ”مرض الملوك” وأصبح داءً أكثر انتشارًا بين الفئات الأقل دخلًا، مما يجعله تحديًا صحيًا عالميًا يتطلب إعادة التفكير في العادات الغذائية ونمط الحياة للحفاظ على صحة المفاصل والجسم عمومًا.
مشاهير أصيبوا بالنقرس: من نابليون إلى نجوم الكرة
لم يكن النقرس مرضًا يقتصر على الحكام فقط، بل أصاب العديد من المشاهير والفنانين والرياضيين عبر العصور. ومن أبرز الشخصيات التي عانت من النقرس:
• نابليون بونابرت – الإمبراطور الفرنسي الذي قاد جيوشًا عظيمة لكنه كان يعاني من نوبات النقرس التي أثرت على صحته في أواخر حياته.
• ليوناردو دافنشي – الفنان والمخترع الشهير، والذي يُقال إنه عانى من مشاكل في المفاصل قد تكون بسبب النقرس.
• مارلون براندو – الممثل الأسطوري بطل فيلم العراب، والذي تأثر أداؤه الفني بسبب آلام المفاصل الناتجة عن النقرس.
• إريك كانتونا – نجم مانشستر يونايتد السابق، والذي عانى من نوبات النقرس بسبب نمط حياته الغذائي.
اوضح مرتضى ان هناك طرق الوقاية من النقرس: واهمها دروس من الماضي للحاضر
وعلى الرغم من أن النقرس كان يُعتبر لعنة تصيب الأثرياء، فإن أي شخص اليوم معرض له بسبب نمط الحياة العصري.
وللوقاية منه، ينصح الأطباء باتباع بعض العادات الصحية:
• تقليل تناول اللحوم الحمراء والمأكولات البحرية، لأنها تزيد من مستويات حمض اليوريك.
• شرب كميات كافية من الماء للمساعدة في التخلص من حمض اليوريك الزائد.
• تجنب المشروبات الغازية والكحولية، التي ترفع من خطر الإصابة بالنقرس.
• ممارسة الرياضة بانتظام للحفاظ على وزن صحي وتقليل الضغط على المفاصل.
• الإكثار من تناول الخضروات والفواكه مثل الكرز، الذي ثبت علميًا أنه يساعد في تقليل مستويات حمض اليوريك.
الخاتمة
من الفراعنة إلى الخلفاء، ومن الملوك إلى نجوم الرياضة، ظل النقرس مرضًا يرافق التاريخ الإنساني ويعكس تحولات أنماط الحياة. ومع تطور العلم، أصبح بإمكان أي شخص الوقاية منه والتحكم فيه بسهولة، لكن يبقى الدرس الأكبر: التوازن في الحياة هو المفتاح لصحة أفضل، سواء كنت إمبراطورًا، خليفة، أو مجرد شخص يسعى لحياة صحية خالية من الألم.
